المدة الزمنية 19:8

الحلقة 25: الحقيقة بوصفها قيمة. باكسرين

تم نشره في 2023/03/11

المحور الثالث: الحقيقة بوصفها قيمة الحديث عن الحقيقة كقيمة ناتج عن كونها المثل الأعلى الذي يسعى لتحقيقه الإنسان عموما، سواء على مستوى الفكر النظري أو الممارسة العملية أو السلوك الأخلاقي. الحقيقة إذن قيمة فكرية وعملية وأخلاقية. فمن أين تستمد الحقيقة في الفلسفة الكلاسيكية كانت الحقيقة تطلب كقيمة فكرية وعملية، لتصبح ذات طابع أخلاقي مع الفيلسوف المثالي الألماني E. kant (1724/1804) الذي تصور الحقيقة واجبا أخلاقيا غير مشروط، فعلى الإنسان أن يكون صادقا في أقواله وأفعاله، بالرغم مما قد يترتب عن ذلك من ضرر للذات أو للغير. وهذا يعني أن الحقيقة واجب غير مقيد بشروط حسب كانط. في المقابل يرى الكذب ولو على إنسان واحد مضرا بالإنسانية جمعاء، لأنه يحطم كل سبل التواصل والاحترام المتبادل بين البشر. فالميولات و المصالح لا مكان لها في التصور الأخلاقي المطلق الذي يحدد مفهوم الواجب الذي ينبني على نصوص ملزمة تؤسس لما ينبغي أن يكون. و لا شك في القول أن أي فعل أخلاقي في نظر كانط نابع من كونه غاية في ذاته بغض النظر عن النتائج. لأنه يجب معاملة الإنسان كغاية في ذاته و ليس كوسيلة، هكذا يظهر البعد الإنساني الغائي الذي تناول منه كانط مفهوم الحقيقة كقيمة أخلاقية مشروطة بالواجب. إذا كانت الحقيقة من حيث هي قيمة فكرية أخلاقية قد اعتبرت في الفلسفة التقليدية غاية في ذاتها، فقد تم النظر إليها في الفلسفة المعاصرة و خاصة الاتجاه البراغماتي من حيث هي قيمة عملية و ليست مجردة. إنه اتجاه يركز على التأثير المباشر للحقيقة على الحياة العملية الواقعية. حيث تنتقد البرغماتية، مع رائدها Wiliam James (1842/1910)، التصور العقلاني للحقيقة كمطابقة الفكر للواقع، فأفكارنا تحمل صفة الحقيقة لا لأنها مطابقة للواقع بل من خلال ما تحققه من تأثير في الواقع ومن نفع فيه. إن غاية الحقيقة تتعلق بالتأثير في مجال الفكر وفي مجال العمل على حد سواء."يقوم الصحيح بكل بساطة في ما هو مفيد لفكرنا و الصائب في ما هو مفيد لسلوكنا" هذا الارتباط بين الحقيقة والمنفعة يجعل المنفعة مقياسا للحقيقة، وتجعل بالتالي الحقيقة نسبية، أي أن ما ينفع البعض، يلحق ضررا بالبعض الآخر، فالحقيقي في نظر جيمس هو المفيد. و بالتالي تصبح قيمة الحقيقة قيمة نفعية ترتبط بالمصلحة. "امتلاك الحقيقة، عوض أن يكون غاية في ذاته، إن هو إلا وسيلة مقدمة يتوصل بها إلى إشباع حاجات حيوية أخرى". مقابل التصورات السابقة يؤسس الفيلسوف الألماني Friedrich Nietzsche (1844/1900) لتصور جذري متسائلا عن أصل و غاية الحقيقة، إنه يتصور الحقيقة مجموعة أوهام ثبت جدواها لدى الإنسان، و لعل الوهم أخطر من الخطإ لأنه يصعب اكتشافه لكونه نتاج رغبات وجدانية نفعية تحفظ البقاء (مثلا من بين الأوهام التي يعتنقها الضعفاء لدفع جبروت الأقوياء، تلك القيم الأخلاقية التي ترفع كشعارات تعويضية كالصبر و التعاون والعدل والسلام والتضامن). وقد عزى نيتشه الوهم إلى مصدرين: الأول يتجلى في سعي الإنسان إلى مسالمة الآخرين، مستخدما عقله أحيانا لإخفاء الحقيقة التي قد تنقض ذلك السلم، لأن قول الحقيقة يكون أحيانا قاتلا، فالإنسان يبتغي الحقيقة في معناها الضيق الذي يجلب له المنفعة والمتعة ولا يكترث للحقيقة الخالصة غير المثمرة بل يعادى الحقائق المؤذية. أما المصدر الثاني للوهم فهو اللغة لأن أصلها استعارات وتشبيهات في صور خيالية لا تنقل الواقع كما هو، تجعل الإنسان يكذب لا شعوريا وفق أعراف تجعله يشعر بالحقيقة بدل إدراكها، والإنسان بتعسفه في رسم حدود الأسماء والكلمات يجعل من المستحيل التوصل إلى حقائق الأشياء، "الحقائق هي أوهام نسينا أنها كذلك". و يؤكد نيتشه منتقدا العقل الكلاسيكي أن أساس الحقيقة هو الحياة أو غريزة حفظ البقاء وليس العقل. خلاصة: الحقيقة محكومة بالسياق والجهة التي تصدر عنها، رهينة الزمان والمكان والأشخاص الذين يعيشونها، والمهم هو الإقرار بحق الجميع في امتلاكها، فلكل منا الحق في امتلاك حقيقته وعيشها، مع ضرورة احترام حق الآخرين في ذلك. فليس هناك أخطر من الاعتقاد بأننا على حق وغيرنا على باطل، ليس هناك أخطر من رفض مشاركة الآخرين حقهم في امتلاك حقائقهم، وليس هناك من خطر قد تتعرض له الحقيقة نفسها أشد من خطر الدغمائيين الذين ينصبون أنفسهم حماة للحقيقة ومدافعين عنها، محولين كل من يخالف حقائقهم إلى أعداء. ولا يعي هؤلاء أن الحقيقة لا تظل حقيقة بل تنتهي إلى باطل. ولعله ما شهده العالم حين عاش حقيقة ثبات وانبساط الأرض إلى حدود القرن السادس عشر. بعيدا عن المقاربة المعرفية للحقيقة يمكن كذلك مقاربتها الحقيقة وجوديا وقيميا عندما نتحدث عن الحقيقة كحرية في مواجهة العنف، فمقابل الحقيقة ليس الخطأ وإنما هو العنف خصوصا وأن كل مجتمع يسعى إلى بناء حقائقه وترسيخها ضدا على حقائق أخرى.

الفئة

عرض المزيد

تعليقات - 0